خطاب الاستعلاء ونزع الإنسانية- إرث الاستشراق وقابلية الاستعمار

المؤلف: سيف الدين موعد09.02.2025
خطاب الاستعلاء ونزع الإنسانية- إرث الاستشراق وقابلية الاستعمار

في واقعة استحضرت لدى اللبنانيين ذكريات حقبة الانتداب البغيضة، اعتلى المبعوث الأمريكي إلى لبنان، توم براك، منصة قصر الرئاسة في بعبدا، وخاطب الصحفيين بنبرة فوقية ومهينة، بلغة تعكس استعلاء واضحًا، قائلاً: "سنفرض قواعد جديدة... التزموا الهدوء قليلًا... في اللحظة التي يسود فيها الهرج والمرج والتصرفات غير اللائقة، سنغادر. تحلّوا بالرقي واللياقة والتسامح، لأن هذا هو جوهر المشكلة في المنطقة."

لقد كشفت حادثة قصر بعبدا عن جرح غائر في صميم واقعنا العربي، فالإشكالية لا تقتصر على الإهانة في حد ذاتها، بل تتجاوزها إلى الخلفيات الفكرية والدلالات السياسية التي تنطوي عليها، وكذلك ردود الأفعال تجاهها.

إن عبارة "سلوك حيواني" التي تفوه بها براك لم تكن مجرد هفوة عابرة، بل هي جزء لا يتجزأ من نمط أوسع نطاقًا يُعرف بـ "نزع الإنسانية"، وهو مصطلح خطير يحمل في طياته دلالات عميقة.

يقوم هذا النمط الممنهج على تشبيه مجتمعات بأكملها بخصائص لا تمت للإنسانية بصلة، مما يسلبهم صفاتهم الآدمية ويجعل التعامل معهم خاليًا من أي اعتبارات إنسانية أو أخلاقية.

تجدر الإشارة إلى أن العبارة نفسها قد استخدمها وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، في أكتوبر/تشرين الأول 2023، لوصف الفلسطينيين في قطاع غزة بأنهم "حيوانات بشرية"، وأعلن عن فرض حصار شامل عليهم، قائلاً: "لا كهرباء، لا طعام، لا ماء." كانت هذه العبارة بمثابة إشارة واضحة إلى النية المبيتة لارتكاب جرائم حرب وممارسات وحشية غير إنسانية، وهو ما قد وقع ويحدث بالفعل أمام أعين العالم.

إن هذه النزعة الخطيرة ليست وليدة اللحظة في مسيرة التاريخ، بل هي امتداد لنهج راسخ تبنته القوى الاستعمارية الغربية منذ قرون مديدة، كما تجلى في تجربة الولايات المتحدة مع السكان الأصليين، أو في الاستعمار الفرنسي الغاشم للجزائر، وفي المجازر المروعة التي ارتُكبت ضد أقلية التوتسي في رواندا، أو ضد المسلمين في البوسنة والهرسك، وحتى اليهود أنفسهم كانوا ضحية للدعاية النازية الشنيعة التي استهدفتهم.

والقاسم المشترك بين هذه التجارب المريرة هو استخدام خطاب يقوم على تجريد الجماعات المستهدفة من إنسانيتها، وذلك من خلال وصفهم بأوصاف قدحية مثل المتوحشين والمتخلفين بيولوجيًا أو تشبيههم بالجرذان والصراصير والذباب والثعابين والبرابرة، واستخدام هذا الخطاب كتمهيد نفسي يبرر الهيمنة والقمع، أو يسبق المجازر الجماعية، ويهيئ الظروف لتبرير أبشع الفظائع.

ولا يختلف عن هذا الإطار خطاب "نشر الديمقراطية" و"نشر التحضر" و"محاربة الإرهاب"؛ ذلك الخطاب الذي يضمر وصاية أخلاقية شوفينية متعالية، والذي استُخدم أيضًا لتبرير غزو العراق وأفغانستان وارتكاب الجرائم البشعة فيهما، بل وللسيطرة على المنطقة سياسيًا وعسكريًا، ونهب ثرواتها على مدى عقود متتالية.

إن تشبيه البشر بالحيوانات أو إلصاق صفات دون بشرية أو أقل تحضرًا بهم، يزيد من استعداد الجماهير لتقبل العنف بل وتأييده، باعتباره وسيلة "ضرورية" لتحقيق هدف معين، مهما كان هذا الهدف وحشيًا وغير إنساني.

وبمعنى آخر، فإن لغة "الحيْونة" تسقط القيود الأخلاقية، فلا يصبح قتل المدنيين أو تجويعهم أو تعذيب الأسرى أمرًا مرفوضًا بشكل قاطع، بل قد يراه البعض مبررًا، لأن الضحايا الذين يتم تصويرهم هم من فصيلة أدنى لا تستحق نفس القدر من التعاطف.

يكفي أن نتذكر ردة فعل الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، على مقطع فيديو يظهر أسيرًا إسرائيليًا لدى حماس في حالة صحية مزرية؛ فقد عبّر ترامب صراحة عن أسفه وحزنه العميقين وتعاطفه الشديد مع معاناة ذلك الأسير، واصفًا ما شاهده بأنه "أمر فظيع ومروع."

غير أن هذا التعاطف الانتقائي يقابله صمت مطبق وتجاهل تام لمعاناة أكثر من مليوني فلسطيني في غزة يتعرضون للإبادة والتجويع على مدار أكثر من 22 شهرًا. وحتى عندما اعترفت جهات أممية بوجود مجاعة حقيقية في غزة، التزمت إدارته الصمت المطبق دون أي تعليق يذكر.

تكشف هذه الازدواجية الصارخة في الاستجابة الإنسانية عن نزعة متأصلة لتجريد العرب من إنسانيتهم في الخطاب السياسي الغربي. وضمن هذه الرؤية المتحيزة، تعتبر حياة غير الغربي أقل قيمة، وربما "غير بشرية" بالمرة، ولا تستحق حتى مجرد التعاطف.

وهكذا يتحول التعبير المهين أو الخطاب القائم على التمييز والتفضيل بين الغربي وغير الغربي إلى ما هو أعمق بكثير من مجرد موقف عنصري، ولا يمكن فهمه بمعزل عن حمولته الفكرية العميقة؛ فهو يستدعي دون وعي إرثًا ثقيلاً من الاستشراق، الذي قام المفكر الفلسطيني الكبير، إدوارد سعيد، بتشريحه وفضحه، واصفًا إياه بأنه بنية معرفية سلطوية قام الغرب من خلالها بتشكيل صورة نمطية عن الشرق تخدم مصالح الهيمنة والاستعمار.

لقد صوّر المستشرقون الأوائل الشرق بأنه كيان غير عقلاني وفوضوي ومنحط أخلاقيًا، وذلك على النقيض تمامًا من صورة أوروبا العقلانية والقوية والمتحضرة. ولم يكن هذا التصوير بريئًا على الإطلاق؛ بل كان حاجة استعمارية ملحة لاختلاق تباين جوهري بين شرق متخلف وغرب متقدم.

فعندما يقول مبعوث أمريكي في بيروت: "تصرفوا بتحضر... هذه هي مشكلة المنطقة"، فهو في الواقع يعيد إنتاج تلك المعادلة الاستشراقية القديمة: نحن الغرب نمثل قمة التحضر وضبط النفس، بينما أنتم الشرق (العرب) تمثلون الفوضى والانحطاط الحضاري، وتحتاجون إلينا لإعادة تأهيلكم حضاريًا.

والأخطر من ذلك هو أن هذه اللغة المتعالية والموغلة في تجريد الآخر من إنسانيته، تتخذ أحيانًا مسحة دينية تضفي عليها شرعية زائفة في نظر أصحابها. وقد رأينا مثالًا على ذلك عندما لجأ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى نصوص من التوراة لتبرير أعمال الإبادة، حيث اقتبس من سفر التثنية قائلًا: "اذكر ما فعله بك عماليق."

والعماليق في الذاكرة اليهودية هم عدو أبدي لبني إسرائيل، وقد أمر الرب بإبادتهم في العهد القديم، رجالًا ونساءً وأطفالًا وحتى البهائم.
لم يكن اختيار نتنياهو لهذا الاقتباس اعتباطيًا، فهو يدرك تمامًا تأثير هذه الاستعارة على جمهوره وجنوده، بحيث يضفي على حربه صبغة مقدسة، باعتبارها تنفيذًا لأمر إلهي ضد عدو شرير يجب استئصاله بالكامل، أي رفع مستوى العملية العسكرية من مجرد فعل دنيوي قابل للنقد، إلى رسالة إلهية لا تقبل الجدال.

ويكفي أن ندرك تأثير هذا الخطاب على المجتمع الإسرائيلي أن نشير إلى استطلاع رأي إسرائيلي أجراه مركز (أكورد) مؤخرًا، أظهر أن 76% من اليهود في "إسرائيل" يوافقون على "نزع إنسانية سكان قطاع غزة"، وعلى الادعاء الزائف بأنه "لا يوجد أبرياء في غزة."

إذا وضعنا هذا التداخل التوراتي- السياسي في سياق الاستشراق الذي تحدثنا عنه، فسوف نجد مفارقة عجيبة؛ فالصهاينة وبعض المتطرفين الغربيين يصورون ثقافة منطقة "الشرق الأوسط" بأنها "دينية متعصبة" أو "قبلية همجية"، لكنهم لا يترددون في استدعاء أكثر النصوص الدينية تعصبًا لتبرير أعمال البطش والتنكيل الهمجية بنا!

من جهة أخرى، وفي مواجهة تصريحات المبعوث الأمريكي المهينة، كان من اللافت للنظر العدد الكبير للأصوات المستلبة أو تلك التي تعاني من عقدة الخواجة، والتي دعت إلى عدم تضخيم الأمر وإلى "تفهم السياق"، بل إن بعضهم قد اجتهد في إنكار الكلام أو تأويله، وحتى في لوم الصحفيين أنفسهم على انفعالهم!

وهذا يقودنا إلى طرح المفكر الجزائري الراحل، مالك بن نبي، الذي أطلق عليه اسم "القابلية للاستعمار"، وهو مفهوم لا يزال وثيق الصلة بفهم معضلاتنا المعاصرة، إذ يحملنا جزءًا من المسؤولية التاريخية عما آلت إليه أوضاع منطقتنا.

فيرى مالك بن نبي أن الاستعمار لم يكن لينجح ويستمر لفترة طويلة لولا أنه زرع في نفوس المحتلين والمستعمَرين قابلية نفسية لتقبل الذل والخنوع، فإذا كان المجتمع مشبعًا بروح الخضوع والاستسلام تلك، فستظهر حكومات ونخب تمارس دور الوكيل للاستعمار من داخل المجتمع نفسه.

على نطاق أوسع، عربيًا، نرى تجليات هذه القابلية للهيمنة في تعامل بعض النخب مع المشاريع الصهيونية والاستعمارية الجارية. فعندما يعلن قادة إسرائيليون صراحة عن أطماعهم التوسعية، مثل الحديث عن "إسرائيل الكبرى" أو خطط تقسيم الدول العربية والإسلامية أو تغيير أنظمتها بالقوة، يهرع محللون وسياسيون عرب لإقناع جماهيرهم بأن "كل ذلك أوهام ودعايات فارغة"، وأنه يجب علينا فقط أن نطبّع ونتجاوز الماضي، ونركز على التنمية وسبل التقدم!

إننا أمام حالة من الإنكار المريح الذي يغذي القابلية للاستعمار، إنها آلية نفسية للهروب من تحمل المسؤولية، فبدلاً من مواجهة الخطر، يتم إنكاره أو التقليل من شأنه، لأن الاعتراف به يتطلب اتخاذ موقف ينطوي على تضحية وخروج من منطقة الراحة، على الرغم من أنها منطقة قاتلة!

تكمن المشكلة في أن هذا الخطاب الانهزامي يتجاهل عمدًا أن جوهر الصراع يكمن في الاستعمار والاحتلال، وسرقة الأراضي، وتهجير السكان، وقمع أي تطلعات للنهضة العربية مهما كلف الأمر.

تكمن المشكلة في أن هذا الخطاب يصور المقاومة المشروعة على أنها عقبة أمام "الازدهار الاقتصادي" المزعوم، ويتعامل مع التطبيع كشرط ضروري للتنمية وتحقيق الرخاء، على الرغم من أنه قد ثبت مرارًا وتكرارًا أنه لا يمكن تحقيق ازدهار ولا تنمية حقيقية للشعوب الواقعة تحت نير الاحتلال، أو التي تدور في فلكه. ومع ذلك، يواصل مروجو هذا النهج ترويج الأوهام والوعود الكاذبة.

هذا المنطق الخطابي أقرب إلى ما يسميه المفكر الإيراني، علي شريعتي، بـ "الاستحمار"، وهي استعارة تشير إلى تزييف وعي الإنسان وصرفه عن قضاياه الجوهرية. فأي دافع يصرف الإنسان عن اليقظة والوعي هو دافع "استحماري"، حتى لو كان يبدو مقدسًا في ظاهره.

وبعبارة أخرى، قد يتم تضليل المجتمع بخطابات براقة في ظاهرها، سواء كانت علمية أو دينية أو اقتصادية، ولكنها في جوهرها تؤدي إلى إبعاده عن معركة الحرية الحقيقية.

وأخطر أدوات "الاستحمار" في عصرنا الحديث هي تلك التي ترتدي قناع التحديث والتنمية والسلام، بهدف تخدير الشعوب وسط بحر من الهيمنة والظلم والتهديدات المتربصة بالمنطقة، وفي القلب منها قضية فلسطين.

فكل خطاب لامع ما هو إلا أداة تضليل كبرى ما دام لم يقترن بشرطي الحرية والكرامة، وبنفي القابلية لاحتقار الذات، وهذه الأخيرة يعتبرها شريعتي مقدمة لتقبل الاستعباد؛ فقبل أن يُستعبد أي شعب، يجب أن يقتنع بأنه أدنى وأضعف، وعندها يتقبل المقهور الذل والعبودية بصدر رحب ودون مقاومة.

أليس هذا ما نشاهده أحيانًا في وسائل إعلامنا ومناهجنا التعليمية، بل وفي أبسط تفاصيل حياتنا اليومية؟ الصور النمطية التي تسخر من العربي وتهينه، وتمجد كل ما هو غربي، في النكات وفي البرامج التلفزيونية وفي الأفلام والفنون الأخرى، والتي تصور العربي على أنه شخص غبي وشهواني وأقل تحضرًا، بينما تصور الغربي على أنه شخص ذكي ونبيل وأكثر تحضرًا ورقيًا.

هذه السموم البسيطة في ظاهرها هي التي تخلق تراكمًا نفسيًا يجعل قبول الهيمنة أمرًا سهلاً. فعندما يأتي سياسي غربي ويقول: "سنجلب لكم الاستقرار"، نسارع إلى الترحيب به وشكره، لأننا مقتنعون في أعماقنا بأننا عاجزون عن حل مشاكلنا بأنفسنا. وحين يقول لنا: "التطبيع هو الطريق إلى الازدهار"، نصفق له بحرارة، لأننا فقدنا الثقة بأنفسنا وأصبح عدونا هو معيار التقدم والتطور!

إن مقاومة هذا "الاستحمار" الجديد تتطلب "نباهة فردية واجتماعية"، كما أسماها شريعتي، أي وعيًا ثاقبًا ويقظة دائمة، تعيد ترتيب أولوياتنا، بحيث نميز بوضوح بين العدو والصديق، وبين الجلاد والضحية، وألا ننخدع بالوعود المعسولة عن الاستقرار الاقتصادي، في الوقت الذي تُزهق فيه الأرواح وتُدمر الأوطان من حولنا، ويزحف العدو على أسوارنا.

فالتنمية الحقيقية لا تأتي على ظهر دبابة محتل، ولا بقرار من سفارة أجنبية؛ بل هي تنبع من التحرر الوطني، ومن المقاومة الباسلة، ومن السيادة الكاملة على قراراتنا وثرواتنا.

إنها تنبع أولاً من قناعة راسخة بأنه لا يمكن تحقيق نهضة ولا استقلال حقيقيين دون حسم الصراع على فلسطين، وقبل كل ذلك، من الإيمان العميق بأننا نستحق وضعًا أفضل بكثير من موقع التابع المهان والمتذلل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة